السبت، يوليو ٤

واحد شاي

واحد شاي ... هكذا نطق الراوي أول كلماته في امسيه غره شهر رجب, نطقها و قد التف حوله اهل القريه بنسائهم و اطفالهم تتقدمهم أواني طعام اشبه بالقرابين يقدمها اهل القريه للراوي ليقص عليهم القصص و يؤنس ليلهم .. و لما شعر الراوي بان الكل استقر و العيون اتجهت اليه .. بدأ في الحديث قائلا ..

عن مملكه الأمس, اقص عليكم قصه ملك قطع الأرض زحفا لينال طمعا من خيراتها, و ما ترك بقعه الا كان له نصيب مما فيها رغم انه يملك خزائن تسع جبال تحيط ببحر و شواطئه , ان اصطف جيشه في صف واحد احاط الارض مرتين, و ان سار في خط واحد اهتزت جدران الجبال .
لم يكن يكتفي ابدا بما عنده, فكلما سمع عن شيء قيم ولو كان في اقصي الأرض, ارسل من يأتي به اليه, ولكنه مؤخرا سمع عن شيء اذهله فقد اخبره احد رحالته بانه سمع رجلا من الشرق كان يشاركه جزأ من رحلته أن بموطنه نجمه تنير للناس صباحهم و تظلم عليهم مسائهم, و هذه النجمه ليست بالشمس, و ليست من نجوم السماء, و انما هي شيء يسكن أعلي الجبل, ان طلع الصبح ارسل انواره و ان زحف الليل اطفأها.

لم يصبر الملك لحظه فأعلن في ارجاء المملكه بان من يأتي له بهذه النجمه له ملك و مال, و انه سيكون من عليه القوم طوال عمره ..
أعد كل شباب المملكه عدتهم ليذهبوا في اتجاه الشرق بحثا عن هذا الجبل الذي تعلوه النجمه, و كان شرط الملك أنه اذا اراد شابا ان يشارك فعليه بتقديم ناقه ترعي في مزرعه الملك حتي يعود صاحبها, فان عاد بالنجمه و ناقته باقيه استعادها و نال ما اعلنه الملك, و اما ان عاد من دونها فليس له شيئا ..

سارع الشباب بتحقيق شرط الملك, و امتلأت مزرعه المملكه بكل انواع النوق, و بدأ الشباب في التحرك و خلت المدن منهم و لم يبقي سوي شاب واحد استعصي عليه حظه فمنعه من الذهاب, كان هذا الشاب يعمل لدي احد تجار النوق فيرعي له نوقه و له نصيب في بيعها و لكنه لا يملك اي منها ليقدمها للملك, و قبل ان يتملك الشاب اليأس, عرض عليه صاحب النوق - و قد كان يحبه - بانه اذا باعها كلها في خمسه ايام قد له واحده ليحقق بها شرط الملك و يبدأ رحلته, و هذا ما حدث, دار الشاب القري يعرض النوق للبيع و عمل ليل نهار حتي فعلها, و اعطاه صاحب النوق ناقه صغيره فاسرع و قدمها لمزرعه الملك..

و بدأ رحلته متأخرا بايام خمسه, فاسرع خطاه و سلم نفسه للارض يزحف عليها زحف الرياح .
مرت الايام و الشهور, و صاحبنا لازال علي حاله يقطع الأرض, حتي اقترب من المكان المنشود و بدأ يسأل عن هذه النجمه و هذا الجبل و لكن بلا فائده, حتي استسلم من امر الناس و بدأ يبحث بنفسه, و مرت الايام و هو يدور حول نفسه حتي ظن ان هناك من سبقه اليها و عاد بها الي الملك, و اخذ يندب في حظه, فهو لم يبدأ مع من بدأوا فتأخر عنهم بخمسه ايام .. و اخذت ايامه تسوء و احواله تتدهور و سكن بيتا صغيرا ارتمي فيه حتي ينال منه الموت فيموت ندبا علي حظه .

و في يوم من الايام استيقظ صاحبنا و قرر العودة, فليس له في هذه الأرض مكانا و كان قد استوحش الغربه, فخرج من بيته ليعد لرحلته, فتقدم نحو السوق حيث تتلون الأرض بألوان الادوات و الملابس و الطعام و البشر انفسهم, و في ازدحام المكان رأي ما شده فيها .....

واحد شاي .. هكذا قال الراوي بعد ان قطع القصه فاسرع احد الشباب الي الداخل و خرج سريعا يحمل بيده الشاي فوضعه امام الراوي و جلس, فابتسم الراوي و عاد الي الحديث..

هي فتاه ان ابتسمت ابتسم كل من حولها, و ان تحدثت فكت كرب كل مكروب, و ان مالت لليمين تميل معها الجبال و ان مالت الي الشمال مالت معها الشمس, و ان مشت تبعها نور السماء, و ان وقفت سكنت المخلوقات .. هي انسانه تحمل صفات السمو, ترحم و تمنح و تكرم من عدم .. ترحم المكروب و تمنح الروح الي الضائع و تكرم بالسعاده من عدم..

نسي الشاب كل ما قرر يوما ان يفعله, و تحولت حياته نحوها و كأنها البوصله تشير الي الشمال, و اسلم الخطي ورائها فتبعها حتي بيتها, و علم انها تسكن مع والدها التاجرالذي قطع الارض مشرق و مغرب مرتين .. اقترب من باب البيت و هو لا يعلم ماذا يفعل, كل ما اراده هو ان يراها مجددا, و لكن التردد منعه فظل واقفا عند بابها حتي فوجيء بمن يفتحه, و مع فتح الباب صدم صدمه عنيفه اغابته عن الوعي ....

واحد شاي .. و تكرر ما فعله الشاب و عاد بالشاي

و اكمل الراوي, لم يكن صاحبنا هو من صدمه الباب, و لكن قلبه هو الذي اصطدم بجدران صدره عندما رأها امام عينيه ترسل نظره تحمل معني ( من أنت؟ ), لم يتحرك الشاب و ظل واقفا امامها و كأنه في بلاط الملك يمثل امامه, ظل الوضع علي ما هو عليه حتي خرج والدها و سأله ( من أنت؟ ) اجاب الشاب باسمه و مكانه الذي اتي منه, فسأله ابوها ( و ما جاء بك الي هنا ؟؟ ) فسرد الشاب حكايته و سبب مجيئه, و هنا ابتسم الأب و دعي الشاب للدخول ..

دخل الشاب و جلس امام الاب يستكمل حكايته و ما صار معه, و عندما انتهي من حديثه قال له الأب, اسألك سؤالا ان اجبت عليه بما اريد من اجابه ادلك علي طريق الجبل فتجد نجمتك و ان لم تجب ارسلك الي وطنك خالي اليدين .. فاعتدل الشاب في جلسته و انتظر السؤال ..
فقال الاب: فقر ببيتك, و مال و جاه بعيدا عنه, ايهما احب اليك ؟؟
فكر الشاب قليلا و اجاب, ارضي بفقر داخل جدران بيتي مع من احب علي ان اتركهم نحو مال و جاه .. و عندها استشاط الاب غضبا و اشاح بوجهه و قال له, عد حيث اتيت فانت صاحب الفقر و هو صاحبك .. فوقف الشاب من مقعده و نظر الي الاب طويلا حتي استسلم و خرج, و لكنه سرعان ما عاد الي الاب و قال له .. سلبتني ملك كنت احلم به و جاهدت لاجله, اطلب منك طلبا تعوضني به عن خسارتي .. فقال له الأب .. قل ما عندك .. قال له الشاب:
خسرت ما بدأت به طريقي, و خسرت ما تمنيت ان ينتهي به طريقي, و لكني وجدت مفرا من الموت عند عتبه بابك, تحكم يمينك انسانه حركت مشاعري و اعادت الحياة الي نفسي و ارشدتني لطرق اخري في الحياة غير الذي فقدته .. أسألك الزواج منها لعلي اجد مخرجا مما انا فيه و اعدك بما يلي .. اعيدها اليك بعد عام, فان رأيت سعادتها باديه علي وجهها فردها لي, و ان رأتها حزينه فهي لك ...

فكر الاب العجوز قليلا ثم قال .. سألتك سؤالا فلم تجيبه كما أردت, و لكني اعتقد انك تستحق العوض بما علمته منك عن رحلتك الشاقه, أوافق علي ما طلبت و لقائي معك بعد سنه ..

وقف الراوي قليلا و نظر الي الجمع, ثم استدار ليلقي نظره علي الاطفال الذين غلبهم النعاس فرقدوا بجوار اعواد الحطب المشتعله .. وجلس

أسرع الشاب في تجهيزات الزواج و استعد لرحلته و حتي اذ اكتملت المراسم فانطلق هو و عروسه عوده الي نقطه انطلاقه الأولي, قاطعين طريقا طويلا كان كافيا بأن يتأكد الشاب انها هي من تستحق ان يسعي لها و ليس الملك ولا المال, و كان كافيا لها ايضا ان تعرف كم هو قادر علي ان يحقق احلامه و لو لم يملك سوي العزم ..

دخل الشاب المدينه و توجه الي بيته القديم, و بعد ان استقبل البيت زوجته و قضوا ليلتهم الأولي, توجه الي قصر الملك ليعلم ما حدث في غيابه ... و عند مدخل القصر استوقفه الحراس و اعلموه أن الملك ذهب بنفسه بحثا عن النجمه بعد ان فشل الجميع في احضارها ..
عاد الشاب الي بيته و مضت الايام و رزقهم الله بطفله جميله اصرت امها علي ان تسميها نجمه, و بعد اشهر من الولاده حان ميعاد عودتهم الي الاب العجوز, حيث ان عاما قد مضي علي الاتفاق.

استقبلهم الاب العجوز بعد ان اطمأن علي ابنته و قبل جبين حفيدته و راح يستمع لما قصته عليه الابنه من عجب في بلاد الملك, و بينما الاب و ابنته جالسون ذهب الشاب ليتلمس اخبار الملك و يعرف ماذا وصل اليه و قد علم انه مقيم عند سلسله جبال هي الاقرب لوصف الرحاله مما سمعه من رفيق رحلته, و حتي اذ اقترب الشاب من مكان الملك اقتاده الحراس بعد ان علموا انه احد الشباب الذين ذهبوا للبحث عن النجمه.
دخل الشاب و مثل امام الملك فبوجه الملك اليه الحديث قائلا:
اخبرني انك اتيت بها و لك ما تتمني
فاجاب الشاب:
لا يا مولاي لم اجد نجمتك.
و هنا اشاح الملك بوجهه:
اذا فما الذي اتي بك الي هنا.
فرد الشاب:
جأت يا مولاي لاخبرك بأمر قد يساعدك علي الوصول الي نجمتك.
قال الملك:
هات ما عندك
اقترب الشاب من الملك و استكمل حديثه قائلا:
قابلت رجلا كاد ان يخبرني بمكان النجمه الا انه سألني سؤالا لم افلح في الاجابه عليه مما جعله يرفض الافصاح عن مكانها, و لكني اعتقد انه اذا قابلته يا مولاي فسألته عن النجمه قد يخبرك ما يعرفه عنها.
فأمره الملك بان يأتي بالاب العجوز.

ذهب الشاب و عاد بالاب بعد ان اخباره بما دار مع الملك و وافق الاب علي الذهاب معه, و بمجرد ان دخل الي الملك حتي صاح الرحاله قائلا: ( هذا هو يا مولاي, هو من اخبرني عن النجمه ) و عندها وقف الملك و قال:
اخبرني ايها الشيخ بما تعرفه عن النجمه و لك ما تطلب.
فقال الشيخ: نجمتك التي تبحث عنها ليس لها وجود يا مولاي, اما النجمه التي اخبرت الرحاله عنها فهي موجوده .. و هي فعلا ان ظهرت للقوم في الصباح اضائت يومهم و ان ذهبت عنهم في الليل اظلم مسائهم, و انما ظهورها يبدأ من صحوتها و ينتهي عند نومها .. من كنت اتحدث عنها يا مولاي هي ابنتي, تلك التي تزوجها الشاب الذي ذهب للبحث عنها , لقد وجدها و هو لا يعلم ..
لقد كنت احكي للرحاله عن ابنتي التي كنت قد اشتقت اليها مع طول رحلتي, و يبدوا ان الرحاله اضله الوصف كما اضلك يا مولاي, ان كنت تبحث عن كل غالي علي الارض فهل نظرت لما تملك ؟؟ لديك المال و كل ما تتمني و لكن هل نظرت يوما للاشخاص حولك الذين تحبهم و يحبونك ؟؟

انتهي حديث الشيخ مع الملك بعد ان ضحك الملك كثيرا علي سنوات اذاعها في البحث عن شيء ليس له وجود, و لكن يبدو انه لم يتعلم الدرس و انه لازال علي حالي ينظر لماديات الاشياء و ينسي المشاعر.
و اما عن الالب العجوز فقد عاد مع الشاب الي البيت و روي علي مسامع ابنته ما حدث عند الملك و ما تسببت كلماته عنها من احداث كبيره, و عندما انتهي من الحديث سأله الشاب:
اذا فانت تعلم ما جأت لابحث عنه و مع ذلك ضللتني.
فقال العجوز:
لا يخفي عليك الان اني قد علمت انك وجدت ما جات للبحث عنه, و ما تركتك من دون جواب الا لانني وجدت فيك من هو اهل لابنتي, و لم اشاء ان اخبرك بالسبب حتي تعلمه بنفسك.
فسأل الشاب:
و ماذا عن السؤال الذي سألته لي
رد الأب:
اجابتك هي ما اردت ان اسمعه و لكني اردت ان اختبرك لاعرف سبب سعيك الحقيقي وراء نجمه الملك, و هل ان علمت انه ليس للنجمه وجود ستعدل عن رأيك في ابنتي ام لا.

اطبق الراوي فمه و نظر الي الجمع حوله و قال لهم:
حدثتكم عن ما قد صار و كان, و الان اترككم لما سيكون و اترك معكم بعض كلماتي ... ان اردتم يوما ان تسعوا لشيء فلا تجعلوا المال و الملك هو هدفكم, بل ابحثوا عن هدف اسمي .
و من احب منكم فليجعل حبه هو طريقه و لا يحيد عنه بحثا عما قد يعتقده اهم, لا يوجد اهم من ان يشعر الانسان بالحب و التحاب و المحبه, و ان يستسلم الانسان يجد النصر كان اقرب اليه من استسلامه.

ليست هناك تعليقات: